فصل: الفصل السادس: في أهم الأحداث التي وقعت بعد فتح مكة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السيرة النبوية دروس وعبر



.الفصل السادس: في أهم الأحداث التي وقعت بعد فتح مكة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم:

.غزوة حنين:

بعد أن فتح الله مكة على رسوله والمسلمين فانهارت بذلك مقاومة قريش التي استمرت إحدى وعشرين سنة منذ بدء الرسالة، تجمعت هوازن لقتال الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت معركة حنين التي تجد تفاصيلها في سيرة ابن هشام.
ونذكر من دروس هذه المعركة ما يلي:
1- ما كان من غرور مالك بن عوف وعدم استماعه لنصيحة دريد بن الصمة حرصاً منه على الرئاسة، واغتراراً منه بصواب فكره، وتكبُّراً عن أن يقول قومه- وهو الشاب القوي المطاع-: قد استمع إلى نصيحة شيخ كبير لم يبق فيه رمق من قوة، ولو أنه أطاع نصيحة دريد لجنَّب قومه الخسارة الكبيرة في أموالهم، والعار الشنيع في سبي نسائهم، ولكنه الغرور وكبرياء الزعامة يوردان موارد الهلكة ويجعلان عاقبة أمرها خسراً، فقد أبى له غروره أن يستسلم لقوة الإسلام التي ذلت لها كبرياء قريش بعد طول كفاح وشديد بلاءٍ، وظن أنه بما معه من رجال وما عنده من أموال، يستطيع أن يتغلب على قوة الإسلام الجديدة في روحها، وفي أهدافها، وفي تنظيمها عليه وعلى قومه، ثم أبى له غروره إلا أن يخرج معه نساء قومه وأموالهم ليحول ذلك دون هزيمتهم، وعدا نصيحة دريد الذي قال له: إن المنهزم لا يرده شيء، فإنه غفل عن أن المسلمين الذين سيحاربهم لا يستندون في رجاء النصر على مال ولا عدد ولا عدة، وإنما يستندون إلى قوة الله العزيز الجبار، ووعده لهم بالنصر والجنة، ولا يمتنعون عن الهزيمة رغبة في الاحتفاظ بنسائهم وأموالهم، بل رغبة في ثواب الله وخوفاً من عقابه الذي توعد المنهزمين في ميادين الجهاد بأليم العذاب وشديد الانتقام {ومن يولِّهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} [الأنفال: 16].
وهكذا حلت الهزيمة بمالك وقبيلته هوازن ومن معه، ولم يقتصر شؤم غروره وكبريائه عليه وحده، بل أصاب قومه جميعاً، لأنهم أطاعوه في هذا الغرور، ولما أنذرهم بأنهم إن لم يستجيبوا له، بقر بطنه بالسيف، سارعوا إلى طاعته، ولو أنهم اتبعوا نصيحة شيخهم المجرب، وكفكفوا من كبرياء زعيمهم الشاب، لما أصابهم ما أصابهم، لقد خافوا من غضب هذا الزعيم المغرور عليهم، ولو أنهم سألوا أنفسهم: ماذا يكون لو أغضبناه؟ لكان الجواب: أنهم يفقدون زعيمهم! وماذا في هذا؟ ماذا في ذهاب زعيم مغرور أنانيٍّ يريد أن يستأثر بشرف المعركة دون من هم أقدم وأخبر منه بالمعارك وشؤونها؟ وهل توازي حياة شخص حياة قبيلة أو أمة من الناس بأكملها؟ لقد حذَّرنا الله في القرآن من نتيجة هذا الاستسلام الجماعي لأهواء المغرورين من الكبراء والزعماء، يقول الله تعالى في قصة موسى مع فرعون: {فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين فلما آسفونا} أغضبونا بإعراضهم عن الحق واتباعهم لطاغيتهم المغرور {انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفاً} قدوة للعقاب {ومثلاً للآخرين} [الزخرف: 54- 56].
2- ما كان من استعارة الرسول صلى الله عليه وسلم من صفوان وهو مشرك مائة درع مع ما يكفيها من السلاح، ففيه عدا وجوب الاستعداد الكامل لقتال الأعداء، جواز شراء السلاح من الكافر، أو استعارته على أن لا يؤدي ذلك إلى قوة الكافر واستعلائه، واتخاذه من ذلك وسيلة لأذى المسلمين وإيقاع الضرر بهم، فقد استعار الرسول من صفوان السلاح بعد فتح مكة، وكان صفوان من الضعف والهوان بحيث لا يقوى على فرض الشروط على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدل على ذلك قوله للرسول حين طلب منه ذلك: أغَصباً يا محمد؟ فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم: بل عاريةً مضمونةً حتى نُؤديها إليك.
وفي هذا أيضاً مثلٌ من أمثلة النبل في معاملة المسلمين لأعدائهم المنهزمين، فلو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يأخذها منه غصباً لاستطاع، ولما قدر صفوان أن يقول شيئاً، ولكنه هدي النبوة في النصر ومعاملة المغلوبين، والعف عن أموالهم بعد أن تنتهي المعركة ويلقوا السلاح، وما علمنا أن أحداً فعل هذا قبل محمدٍ صلى الله عليه وسلم ولا بعده، وفيما شهدناه من معاملة الجيوش المنتصرة للمغلوبين والتسلط على أموالهم وكراماتهم وحقوقهم أكبر تأييد لما قلناه {والله يقولُ الحق وهو يهدي السبيل} [الأحزاب: 4].
3- حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال في هذه المعركة، كان معه اثنا عشر ألفاً: عشرة آلاف ممن خرجوا معه من المدينة فشهدوا فتح مكة، وهم المهاجرون والأنصار، والقبائل التي كانت تجاور المدينة، أو في طريق المدينة، وألفان ممن أسلموا بعد الفتح، وكان أكثر هؤلاء ممن لم تتمكن هداية الإسلام في قلوبهم بعد، وممن دخلوا في الإسلام بعد أن انهارت كل آمالهم في مقاومته وإمكان التغلب عليه، ففي هذا الجيش كان المؤمنون الصادقون الذين باعوا الله أرواحهم وأنفسهم في سبيل إعزاز دينه، وفيه كان الضعاف في دينهم، والموتورون الذين أسلموا على مضضٍ وهم ينطوون على الحقد على الإسلام والتألم من انتصاره، فلم يكن الجيش كله في مستوى واحد من قوة الروح المعنوية، والإيمان بالأهداف التي يحارب من أجلها، وفيه الراغبون في غنائم النصر ومكاسبه، ولذلك كانت الهزيمة أول الأمر شيئاً غير مستغرب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى كثرة من معه: لن نغلب اليوم من قلة أي: إن مثل هذا الجيش في كثرة عدده لا يغلب إلا من أمور معنوية تتعلق بنفوس أفراده، تتعلق بإيمانهم وقوة أرواحهم وإخلاصهم وتضحياتهم، وقد وضع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قاعدة جليلة، وهي أن النصر لا يكون بكثرة العدد، ولا بجودة السلاح، وإنما يكون بشيء معنوي يغمر نفوس المحاربين، ويدفعهم إلى التضحية والفداء، وقد أكد القرآن الكريم على هذا في غير موضع، فقال تعالى: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} [البقرة: 249].
وفي الآيات التي نزلت بعد انتهاء المعركة ما يشير بصراحة إلى هذا المعنى: {ويوم حنينٍ إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغنِ عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين} [التوبة: 25- 26].
4- وفي قول بعض المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في طريقهم إلى المعركة: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، وفي جواب الرسول صلى الله عليه وسلم: قلتم- والذي نفس محمد بيده- كما قال قوم موسى لموسى: {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة}، (انقطاع وجهالة، وقبل: القائل ذلك، سلمة بن سلامة بن وقش، وقيل: أبو بكر الصديق، وقيل: العباس، وقيل: رجل من بني بكر) {قال إنكم قوم تجهلون} [الأعراف: 138] إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم.
في هذا إشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما ستسلكه هذه الأمة من تقليد الأمم السابقة لها، وفيه تحذير من ذلك، وأنها لا تسلكه إلا من غلبة الجهالة عليها، فالأمم التي تعرف وجوه الخير والفساد، وطريق الضرر والنفع، تأخذ الخير وتتمسك به، وتعرض عن الفساد وتفر منه، وتأبى أن تسلك أيَّ طريق يضر بها ولو سلكته الأمم وسارت فيه، فإذا سارت في طريق التقليد غير عابئة بنتائجه، كانت قد وضعت الشيء في غير موضعه، وهذا هو الجهل الذي قال الله عنه: {إنكم قوم تجهلون}، والأمة الواثقة بنفسها، المعتزة بشخصيتها، المطمئنة إلى ما عندها من حق وخير تأبى أن تسير وراء غيرها فيما يؤذيها وينافي مبادئها، فإذا قلدت، كانت ضعيفة الشخصية، مضطربة التفكير، مستسلمة للأهواء، متردية في الضعف والانحلال، وتلك هي الجاهلية التي أنقذنا الله منها برسوله وكتابه وشريعته، ليس العلم والجهل في نظر دعوات الإصلاح هما القراءة والأمية، وإنما هما الهدى والضلال، والوعي والغباوة، فالأمة الواعية لما يفيدها وما يضرها، هي الأمة العالمة ولو كانت أمية، والأمة التي لا تهتدي إلى الخير سبيلاً منهجاً، هي الأمة الجاهلة ولو كانت تعرف شتى العلوم، وتحيط بمختلف الثقافات.
إن الذي هوى ويهوي بالأمم- أي أمة كانت- إنما هو استيلاء الجاهلية على عواطف أبنائها وأهوائهم، واسألوا التاريخ: هل انهارت حضارة اليونان والرومان إلا بسيطرة الجاهلية عليها.
إن المقلدين جهال مهما تعلموا، أطفال مهما كبروا، وسيظلون أولاداً جهالاً حتى يتحرروا.
5- في هذه المعركة بعد أن انهزم المسلمون أول الأمر، وتفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ظن شيبة بن عثمان أنه سيدرك ثأره من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبوه قد قتل في معركة أحد، قال شيبة: فلما اقتربت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقتله أقبل شيء تغشى فؤادي، فلم أطق ذلك، وعلمت أنه ممنوع مني.
ولقد تكررت في السيرة مثل هذه الحادثة، تكررت مع أبي جهل، ومع غيره في مكة، وفي المدينة، وكلها تتفق على أن الله قد أحاط رسوله بجو من الرهبة أفزع الذين كانوا يتآمرون على قتله، وهذا دليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة، وعلى أن الله قضى بحفظ نبيه من كل كيد، وببقائه حياً، حتى يبلغ الرسالة، ويؤدي الأمانة، وينقذ جزيرة العرب من جاهليتها، ويقذف بأبنائها في وجه الدنيا، يعلمون، ويهذِّبون، وينقذون، ولولا حماية الله لرسوله، لقضى المشركون على حياته منذ أوائل الدعوة، ولما كمل الدين، وتمت النعمة، ووصل إلينا نور الرسالة وهدايتها ورحمتها، ولما تحول مجرى التاريخ تحوله الذي خلص الإنسانية من عمايتها وشقائها بانتشار الإسلام، وانتهاء عهود التحكم بالشعوب، والاستبداد بتصريف شؤونها، من ملوك ورؤساء أقاموا سلطانهم على البغي والظلم، ومنع الشعوب من أن تشعر بكرامتها، أو تثأر لظلامتها، ولقد تم كل هذا بفضل حماية الله لرسوله، حتى أدى الأمانة كاملة غير منقوصة.
لا جرم أن فضل الله كان على رسوله عظيماً {وكان فضل الله عليك عظيماً} [النساء:113]. وأن فضل رسوله على البشرية كان عظيماً، {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107].
ولا جرم في أن نجاة دعاة الحق من كيد أعدائه ومن تربصهم بهم، هو استمرار لذلك الفضل العظيم الذي ابتدأ بحماية رسوله.
وأن على الدعاة أن يلجئوا دائماً- بعد الاحتراس والحذر- إلى كنف الله، ويحتموا بعزته وسلطانه، ويثقوا بأن الله معهم نصير، ولهم حفيظ، وأن من أراد الله له النجاة من كيد أعداء الهداية سينجو مهما يكن سلطانهم شديد الوطأة، عظيم الكيد والتآمر والإجرام، فالحماية حماية الله، والنصر نصره، والخذلان خذلانه، والنافذ قضاؤه وأمره، {إن ينصركم الله فلا غالب لكم} [آل عمران: 160] ومهما يعظم كيد الإنسان الظالم، فان نصر الله العادل أعز وأعظم، فلا يجبن داعية ولا يخف مصلح، ولا يتأخر عن تأدية الحق مؤمن بالله، واثق بعونه وتأييده {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين} [الروم: 47] {إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} [المجادلة: 20- 21] ولا ينافي هذا نجاح أعداء الله في الوصول إلى بعض أئمة الهدى من دعاة الإصلاح، وتمكنهم من القضاء عليهم، أو إيقاع الأذى بهم، فان الموت حق، وهو نصيب ابن آدم لا محالة، فمن يكتب عليه الموت بأيدي الظالمين، فإنما هي كرامة أكرمه الله بها، وفضل أنعم به عليه، وكل موت في سبيل الله شهادة، وكل أذى في دعوة الحق شرف، وكل بلاء بسبب الإصلاح خلود {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين} [التوبة: 120].
6- فوجئ المسلمون أول المعركة بكمين أعدائهم لهم، مما أدى إلى وقوع الخلل في صفوف المسلمين واضطرابهم وتفرُّقهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت معه إلا القليل، ثم أخذ رسول الله ينادي: أيها الناس، هلموا إليّ، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله، فلم يسمع الناس صوته، فطلب من العباس- وكان جهوري الصوت- أن ينادي في الناس: يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب السمرة! فأجابوا: لبيك لبيك، فيذهب الرجل ليثني بعيره، فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه، فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره ويخلي سبيله، ثم يؤم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا ثم كان النصرُ.
في هذا الموقف عدة من العبر والدروس يجدر بدعاة الحق وجنوده أن يقفوا عندها طويلا، فإن انهزام الدعوة في معركة قد يكون ناشئاً من وهن في عقيدة بعض أبنائها، وعدم إخلاصهم للحق، وعدم استعدادهم للتفاني في سبيله، كما أن ثبات قائد الدعوة في الأزمات، وجرأته، وثقته بالله ونصره، له أثر كبير في تحويل الهزيمة إلى نصر، وفي تقوية قلوب الضعاف والمترددين ممن معه، وللثابتين الصادقين من جنود الحق والتفافهم حول قائدهم الجريء المخلص، أثر كبير أيضاً في تحويل الهزيمة إلى نصر، إن الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة أول المعركة، ثم الذين استجابوا لنداء الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتجاوزوا مائة، وعندئذ ابتدأ التحول في سير المعركة، وابتدأ نصر الله لعباده المؤمنين، وابتدأ تخاذل أعدائه، ووقوع الوهن في قلوبهم وصفوفهم، وكلما تذكر قائد الدعوة وجنودها أنهم على حق، وأن الله مع المؤمنين الصادقين، ازدادت معنوياتهم قوة، وازداد إقدامهم على الفداء والتضحية.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا رسول الله»، وفي رواية غير ابن هشام أنه قال: «أنا النبيُّ لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» دلالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة وثقته بنصر ربه، وهكذا ينبغي أن يكون القائد دائماً وأبداً في الشدائد، واثقاً من نفسه، ملتجئاً إلى ربه، متأكداً من نصره له وعنايته به، فإن لثقة القائد بهدفه وغايته ورسالته أكبر الأثر في نجاحه والتفاف الناس حوله، ولها أكبر الأثر في تخفيف الشدائد عن نفسه وتحمل آلامها راضياً مطمئناً.
7- وفي موقف أم سليم بنت ملحان مفخرة من مفاخر المرأة المسلمة في صدر الإسلام، فقد كانت في المعركة مع زوجها أبي طلحة وهي حازمة وسطها ببرد لها وهي حامل، ومعها جمل لأبي طلحة وقد خشيت أن يفلت منها، فأدخلت يدها في خزامته (وهي حلقة من شعر تجعل في أنف البعير) مع الخطام، فرآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: أم سليم؟ قالت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله! أقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقاتل الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو يكفي الله يا أم سليم! وكان معها خنجر، فسألها زوجها أبو طلحة عن سر وجوده معها! فقالت: خنجر أخذته، إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به! فأعجب بها أبو طلحة، ولفت نظر الرسول إلى ما تقول.
هكذا كانت المرأة المسلمة، وهكذا ينبغي أن تكون: جريئة تسهم في معارك الدفاع بحضورها بنفسها، حتى إذا احتيج إليها أو دنا منها الأعداء، ردت عدوانه بنفسها كيلا تؤخذ أسيرة مغلوبة، وللمرأة المسلمة في تاريخ الإسلام حين نشوئه صفحات مشرقة من الفداء والبلاء والتضحية والشجاعة، مما يصفع أولئك المتعصبين من المستشرقين وغيرهم من الغربيين الذين زعموا لقومهم أن الإسلام يهين المرأة ويحتقرها، ولا يجعل لها مكانها اللائق في المجتمع في حدود رسالتها الطبيعية، بل تمادى بهم الإفك إلى الادِّعاء بأن الإسلام لا يفسح مجالاً للمرأة في الجنة، فلا تدخلها مهما عملت من خير، وقدَّمت من عبادة وتقوى!!.
وبقطع النظر عن نصوص القرآن والسنة الصريحة في رد هذا الافتراء، فإن تاريخ الإسلام نفسه، قد سجل للمرأة المسلمة، من المآثر في نشره، والدعوة إليه، والتضحية في سبيله ما لم يسجله للمرأة دين من الأديان قط، وما وقع من أم سليم في هذه المعركة (معركة حنين)
مثال من مئات الأمثلة الناطقة بذلك، ونحن لا يهمنا الرد على أعداء الإسلام المتعصبين في هذا الموضوع بقدر ما يهمنا أن نتخذ من حادثة أم سليم هنا درساً بليغاً يحفِّزنا على دعوة المرأة المسلمة من جديد للقيام بدورها الطبيعي في خدمة الإسلام، وتربية أجيالنا المقبلة على هدية ومبادئه، إن المرأة المسلمة اليوم، بين صالحة مستقيمة تكتفي من صلاحها بإقامة الصلوات، وقراءة القرآن، والبعد عن المحرمات، وبين منحرفة في تيار الحضارة الغربية، قد استبدلت بآداب الإسلام آدابها، وبأخلاق المرأة العربية المسلمة أخلاق المرأة الغربية التي جرت عليها وعلى أسرتها وشعبها البلاء والشقاء، وإذا كان بعض الناس قد أخذوا على عاتقهم تجريد المرأة العربية المسلمة من أخلاقها وخصائصها التي ربت بها أكرم أجيال التاريخ سمواً ونبلاً وخلوداً في المآثر والمكرمات، فإن الإسلام وتاريخه وبخاصة تاريخ رسوله صلى الله عليه وسلم، يهيب بها اليوم أن تتقدم من جديد لتخدم الإسلام والمجتمع الإسلامي في حدود وظيفتها الطبيعية، ورسالتها التربوية، وخصائصها الكريمة، من نبل، وعفة، وحشمة، وحياء، ترى هل تعيد فتياتنا المسلمات المتدينات تاريخ خديجة، وعائشة، وأسماء، والخنساء، وأم سليم، وأمثالهن؟ هل يعدن إلينا اليوم تاريخ هؤلاء المؤمنات الخالدات، والنجوم الساطعات؟ هل يصعب أن يوجد فيهن اليوم عشرات من خديجة، وعائشة، وأسماء، وأم سليم؟ كلا، ولكن التوجيه الصحيح، والإيمان الواعي المشرق، كفيل بذلك وأكثر منه، فمن التي تفتح سجل الخلود للمرأة العربية المسلمة في عصرنا الحاضر، غير عابئة بتضليل المضللين، واستهزاء المستهزئين من أعداء الخير والحق والفضيلة والدين؟
8- وفي هذه المعركة مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة وقد قتلها خالد بن الوليد، والناس متقصفون (مزدحمون) عليها، فقال: ما هذا؟ قالوا: امرأة قتلها خالد بن الوليد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض من معه: أدرك خالداً فقل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاك أن تقتل وليداً، أو امرأة، أو عسيفاً (أجيراً).
لا شك في أن النهي عن قتل الضعفاء، أو الذين لم يشاركوا في القتال، كالرهبان، والنساء، والشيوخ، والأطفال، أو الذين أجبروا على القتال، كالفلاحين، والأجراء (العمال) شيء تفرد به الإسلام في تاريخ الحروب في العالم، فما عهد قبل الإسلام ولا بعده حتى اليوم مثل هذا التشريع الفريد المليء بالرحمة والإنسانية، فلقد كان من المعهود والمسلم به عند جميع الشعوب أن الحروب تبيح للأمة المحاربة قتل جميع فئات الشعب من أعدائها المحاربين بلا استثناء، وفي هذا العصر الذي أعلنت فيه حقوق الإنسان، وقامت أكبر هيأة دولية عالمية لمنع العدوان، ومساندة الشعوب المستضعفة كما يقولون، لم يبلغ الضمير الإنساني من السمو والنبل حداً يعلن فيه تحريم قتل تلك الفئات من الناس، وعهدنا بالحربين العالميتين الأولى والثانية تدمير المدن فوق سكانها، واستباحة تقتيل من فيها تقتيلاً جماعياً، كما كان عهدنا بالحروب الاستعمارية ضد ثورات الشعوب التي تطالب بحقها في الحياة والكرامة.
إن المستعمرين يستبيحون في سبيل إخماد تلك الثورات تخريب المدن والقرى وقتل سكانها بالآلاف وعشرات الآلاف، كما فعلت فرنسا أكثر من مرة في الجزائر، وكما فعلت إنجلترا في أكثر من مستعمرة من مستعمراتها، وكما تفعل اليوم البرتغال في مستعمراتها في إفريقيا.
كما أننا لم نعهد قط في التاريخ شعب من شعوب العالم القديم والحديث النهي عن قتل العمال والفلاحين الذين يجبرون على الحرب جبراً، ولكن الإسلام جاء قبل أربعة عشر قرناً بالنهي الصريح عن قتلهم، ولم يقتصر الأمر على مجرد النهي تشريعاً، بل كان ذلك حقيقة وواقعاً، فهنا في معركة حنين ترى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه وهو صاحب الشريعة ومبلغها عن الله إلى الناس، يغضب لقتل امرأة، ويرسل إلى بعض قواده أن لا يتعرض للنساء والأطفال والأجراء، وحين جهز جيش أسامة لقتال الروم- قبل وفاته بأيام- كان مما أوصاهم به: الامتناع عن قتل النساء، والأطفال، والعجزة، والرهبان الذين لا يقاتلون، أو لا يعينون على قتال، وكذلك فعل خليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين أنفذ بعث أسامة، وحين كان يوجه الجيوش للقتال في سبيل الله: في سبيل الحق والخير والهدى والعدالة، وكذلك فعل سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه في فتوحه بالعراق، فلم يتعرض للأكارين (الفلاحين) العاكفين على زراعة أراضيهم بسوء، وهكذا أصبح من تقاليد الجيش الإسلامي في كل مكان، وفي مختلف العصور هذه المبادئ الإنسانية النبيلة التي لم يعرفها تاريخ جيش من جيوش الأرض، ويدلك على حرص الجيش الإسلامي على هذه التقاليد معاملة صلاح الدين للصليبيين بعد أن انتصر عليهم، واسترد منهم بيت المقدس، فقد أعطى الأمان للشيوخ، ورجال الدين، والنساء، والأطفال، بل وللمحاربين الأشداء، فأوصلهم إلى جماعاتهم بحراسة الجيش الإسلامي، لم يمسسهم سوء، بينما كان موقف الصليبيين حين فتحوا بيت المقدس يتجلى فيه الغدر، والخسة، والوحشية، والدناءة، فقد أمن الصليبيون سكان بيت المقدس المسلمين على أرواحهم وأموالهم، إذا رفعوا الراية البيضاء فوق المسجد الأقصى، فاحتشد فيه المسلمون مخدوعين بهذا العهد، فلما دخل الصليبيون بيت المقدس ذبحوا كل من التجأ إلى المسجد الأقصى تذبيحاً عاماً، وقد بلغ من ذبحوا فيه سبعين ألفاً من العلماء، والزهاد، والنساء، والأطفال، حتى إن كاتباً صليبياً رفع البشارة بهذا الفتح المبين إلى البابا، وقال فيه مباهياً: لقد سالت الدماء في الشوارع حتى كان فرسان الصليبيين يخوضون في الدماء إلى قوائم خيولهم.
إننا لا نقول اليوم هذا للمفاخرة والمباهاة بتاريخ فتوحاتنا وقوادنا وجيوشنا التي قال فيها لوبون: ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم ولا أعدل من العرب وإنما نقول هذا لننبه إلى أننا كنا أرحم بالإنسانية وأبر بها من هؤلاء الغربيين وهم في القرن العشرين، والى أن هؤلاء الغربيين حين يتحدثون إلينا عن حقوق الإنسان ويوم الأطفال، ويوم الأمهات، تدليلاً منهم على سمو حضارتهم إنما يخدعوننا نحن، بل يخدعون السذج والسخفاء، وفاقدي الثقة بأمتهم وتاريخهم، ممن يزعمون أنهم أبناؤنا ومثقفونا.
نريد أن يكون جيلنا المعاصر واعياً لهذه الدسائس، واثقاً بدينه وتراثه الحضاري الإنساني النبيل، فلا يخضع لهؤلاء الغربيين خضوع الفقير الذليل أمام الغني القوي، ولا يتهافت على زادهم الفكري دون تمييز بين غثه وسمينه، تهافت الفراش على النار ليحترق بها.
لقد أثبت العلم أن الإسلام خير الأديان، وأقربها إلى فطرة الإنسان، وأضمنها لصلاح الناس، وأثبت التاريخ أن حروب الإسلام أرحم الحروب، وأقلها بلاءاً، وأكثرها خيراً، وأنبلها هدفاً، وفي كل يوم جديد برهان جديد على أن الإسلام دين الله، وأن محمداً رسول الله، وأن المسلمين الصادقين صفوة عباد الله وخيرتهم من الناس أجمعين. {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} [فصلت: 53].
9- بعد أن تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من انهزم من هوازن إلى ثقيف بالطائف، وحاصرها أياماً فلم تفتح عليه، عاد إلى المدينة وفي الطريق قسم غنائم معركة حنين، وكانت ستة آلاف من الذراري والنساء، ومن الإبل والشياه مالا يدرى عدته، وقد أعطى قسماً كبيراً منها لأشراف من العرب يتألفهم على الإسلام، وأعطى كثيراً منها لقريش، ولم يعط منها للأنصار شيئاً، وتكلم بعضهم في ذلك متألمين من حرمانهم من هذه الغنائم، حتى قال بعضهم: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، أي إنه لم يعد يذكرنا بعد أن فتح الله مكة ودانت قريش بالإسلام، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار وخطب فيهم فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا معشر الأنصار! مقالة بلغتني عنكم، وجدة (أي عتب) وجدتموها عليّ في أنفسكم؟ ألم تكونوا ضلاّلاً فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألّف الله بين قلوبكم؟ بلى! الله ورسوله أمنّ وأفضل.
ثم قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل، قال صلى الله عليه وسلم: أما والله، لو شئتم لقلتم فلصدقتم: أتيناك مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة (البقية اليسيرة) من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا، وتركتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فو الذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً (هو الطريق بين جبلين) وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار فبكى القوم حتى أخضلوا (بللوا) لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً.
وها هنا مسائل يمكن التعليق عليها:
أولاً:... قضية الغنائم كجزء من نظام الحرب في الإسلام، وقد اتخذها أعداؤه وسيلة للطعن فيه على أنها باعث مادي من بواعث إعلان الحرب في الإسلام، ومنشط فعال للجنود المسلمين يدفعهم إلى التضحية والفداء، ولذلك يتهافتون عليها بعد الحرب، كما في هذه المعركة، ولا ريب في أن كل منصف يرفض هذا الادعاء، فبواعث الحرب في الإسلام معنوية تهدف إلى نشر الحق، ودفع الأذى والعدوان، وهذا ما صرحت به آيات وأحاديث كثيرة صريحة، ومن الغرابة بمكان أن يضحي الإنسان بحياته، ويعرض مستقبل أسرته للضياع، طمعاً في مغنم مادي مهما كبر، والطمع في المغانم المادية لا يمكن أن يؤدي إلى البطولات الخارقة التي بدت من المحاربين المسلمين في صدر الإسلام، ولا يمكن أن يؤدي إلى النتائج المذهلة التي انتهت إليها معارك الإسلام مع العرب في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي انتهت إليها معاركه مع فارس والروم فيما بعد، على أن أعداء الإسلام لم تكن تنقصهم المطامع المادية، فغنيمة أموال المسلمين ورقابهم في حال هزيمتهم كانت من نصيب أعدائهم حتماً، ولم يكن المسلمون وحدهم هم الذين يقتسمون أموال أعدائهم ورقابهم عند الانتصار عليهم، بل كان هذا شأن كل جيشين متحاربين، فلماذا لم تؤد المطامع المادية عند الأعداء إلى البطولات الخارقة، والنتائج المذهلة التي كانت تبدو من الجنود المسلمين، والتي أسفرت عنها الحروب الإسلامية؟ وفي وقائع الحروب الإسلامية ما ينفي نفياً قاطعاً بأن الدوافع المادية كانت هي الباعث الرئيسي في نفس الجندي المسلم، ففي معارك بدر، وأحد، ومؤتة، وغيرها كان البطل المسلم يتقدم إلى المعركة مؤملاً في إحراز شرف الشهادة ونعيم الجنة، حتى كان أحدهم يقذف بالتمرة من فمه حين يسمع وعد الرسول للشهداء بالجنة، ويخوض المعركة وهو يقول: بخٍ بخٍ، ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا هذه التمرات، والله إنها لمسافة بعيدة، ثم ما يزال يقاتل حتى يقتل، وكان أحدهم يبرز لقتال الأعداء، وهو يقول: الجنة! الجنة! والله إني لأجد ريحها دون أحد (أي أقرب من جبل أحد، وكان ذلك في معركة أحد).
وفي معارك الفرس كان جواب قائد الوفد المسلم لرستم حين عرض أن يدفع للمسلمين أموالاً أو ثياباً ليعدلوا عن الحرب ويرجعوا إلى بلادهم، والله ما هذا الذي خرجنا من أجله، وإنما نريد إنقاذكم من عبادة العباد إلى عبادة الواحد القهار، فان أنتم أسلمتم رجعنا عنكم ويبقى ملككم لكم، وأرضكم لكم، لا ننازعكم في شيء منها.. فهل هذا جواب جماعة خرجوا للمغانم والاستيلاء على الأراضي والأموال.
أما أن يستشهد لتلك الدعوى الباطلة بما حصل عند تقسيم الغنائم بعد معركة حنين من استشراف نفوس كثيرين من المحاربين إليها، وموجدة الأنصار لحرمانهم منها، فذلك تعام عن واقع المعركة والمتحاربين، فقد كان الذين استشرفوا لتلك المغانم من حديثي العهد بالإسلام الذين لم تتمكن هداية الإسلام من نفوسهم كما تمكنت من السابقين إليه، ولذلك لم يستشرف لها أمثال أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عوف، وطلحة، والزبير، من كبار الصحابة السابقين إلى دعوة الإسلام، وما حصل من الأنصار إنما كانت مقالة بعضهم ممن رأوا في تقسيم الغنائم يومئذ تفضيل بعض المحاربين على بعض في مكاسب النصر، وهذا يقع من أكثر الناس في كل عصر، وفي كل مكان، وهذا المعنى مما يجده كل إنسان في نفسه في مثل تلك الظروف.
وليس أدل على إرادة الله وثوابه وجنته، وطاعة رسوله عند الأنصار، من بكائهم حين خطب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، وكان مما قاله لهم: ألا تريدون أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ فمن فضلوا صحبة رسوله وقربهم منه وسكناه بينهم على الأموال والمكاسب، أيصح أن يقال فيهم: إنهم إنما جاهدوا للأموال والمكاسب؟
ولا معنى لأن يقال: لماذا جعل الإسلام الغنائم من نصيب المحاربين، ولم يجعلها من نصيب الدولة كما في عصرنا هذا؟ لأن القول بذلك غفلة عن طبيعة الناس، وتقاليد الحروب في تلك العصور، فلم يكن الجيش الإسلامي وحده دون الجيش الفارسي أو الرومي هو الذي يقتسم أفراده أربعة أخماس الغنائم، بل كان ذلك شأن الجيوش كلها، ولو أن مجتهداً اليوم ذهب إلى أن غنائم الجيش الإسلامي في عصرنا الحاضر تعطى للدولة، لما كان بعيداً عن فقه هذه المسألة وفق مبادئ الإسلام وروحه.
ثانياً:... أن إغداق العطاء للذين أسلموا حديثاً، يدل على حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفته بطبائع قومه، وبعد نظرة في تصريف الأمور، فهؤلاء الذين ظلوا يحاربون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمتنعون عن قبول دعوته، حتى فتح مكة، والذين أظهر بعضهم الشماتة بهزيمة المسلمين أول المعركة، لا بد من تأليف قلوبهم على الإسلام، وإشعارهم بفضل دخولهم فيه من الناحية المادية التي كانوا يحاربونه من أجلها، إذ كانوا- في الحقيقة- إنما يحاربونه وهم أشراف القوم إبقاء على زعامتهم، وحفاظاً على مصالحهم المادية، فلما خضد الإسلام من شوكتهم بفتح مكة، كان من الممكن أن يظلوا في قرارة أنفسهم حاقدين على هذا النصر، واجدين من هزيمتهم وانكسارهم، والإسلام دين هداية وإصلاح، فلا يكتفي بفرض سلطانه بالقهر والغلبة، كما تفعل كثير من النظم التي تعتمد في قيامها وبقائها على القوة دون استجابة النفوس والقلوب، بل لا بد من تفتح القلوب له، واستبشارها بهدايته، وتعشقها لمبادئه ومثله، وما دام العطاء عند بعض الناس مفيداً في استصلاح قلوبهم وغسل عداواتهم، فالحكمة كل الحكمة أن تعطى حتى ترضى، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد علم الله أن دعوته التي انتصرت أخيراً في جزيرة العرب، لا بد من أن تمتد إلى شرق الدنيا وغربها، فلا بد من إعداد العرب جميعهم لحمل هذه الرسالة، والتضحية في سبيلها فإذا صلحت نفوس أشرافهم بهذه الأعطيات، تفتحت قلوبهم بعد ذلك لنور الدعوة، وحمل أعبائها، وهذا هو الذي حصل، فانه بعد أن تألف رسول الله صلى الله عليه وسلم قلوب هؤلاء الزعماء، زالت من نفوسهم كل موجدة وحقد على الإسلام ودعوته، فلما انساح الجيش الإسلامي في الأرض للتبشير بمبادئ الإسلام، وإخراج الناس من ظلمتهم إلى نوره، كانت الجزيرة العربية مستعدة لهذا العمل التاريخي العظيم، وكان هؤلاء الرؤساء المؤلفة قلوبهم في أوائل الراضين المندفعين لخوض معركة التحرير، وقد أثبت التاريخ بلاء كثير منهم في الفتوحات بلاءً حسناً، كما كان لكثير منهم بعد ذلك فضل كبير في تثبيت دعائم الإسلام خارج الجزيرة، وإرادة مملكته الواسعة، وقيادة جيوشه المتدفقة.
ولا يضر هؤلاء المجاهدين أنهم كانوا في أول إسلامهم ممن ألفت قلوبهم على الإسلام، أو تأخر دخولهم فيه عن فتح مكة، فكثيراً ما يلحق المتأخر بالسابق، ويدرك الضعيف فضل القوي، ويخلص العمل من لم يبدأه مخلصاً، وقد قال الحسن رحمه الله: طلبنا هذا العلم لغير الله، فأبى إلا أن يكون لله. وقال غيره: طلبنا هذا العلم ولم تكن لنا فيه نية، ثم حضرتنا النية بعد. وحسب المتأخرين أن الله وعدهم بالحسنى، كما قال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاًّ وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير} [الحديد: 10].
ثالثاً:... وفي جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار واسترضائهم على حرمانهم من المغانم، دليل على حسن سياسته صلى الله عليه وسلم، ودماثة خلقه، فهو حين بلغه ما قاله بعضهم بشأن الغنائم، اهتم باسترضائهم وجمعهم لذلك، وقال لهم ذلك القول الحكيم، مع أنه يعلم أنهم يحبونه ويتبعونه، وقد بذلوا في سبيل الله دماءهم وأموالهم، فليس يخشى عليهم ما ينقص من إيمانهم، أو يوقعهم في غضب الله ورسوله، ولكنه أحب أن يزيل ما علق في أذهان بعضهم حول هذا الموضوع، وتلك سنة حميدة يجب أن يتبعها القادة والزعماء مع أنصارهم ومحبيهم، فان الأعداء متربصون لاستغلال كل حادثة أو قول يضعف تعلق المحبين بقادتهم، والشيطان خبيث الدس، سريع المكر، فلا يهمل القادة استرضاء أنصارهم مهما وثقوا بهم.
ثم انظر إلى ذلك الأسلوب الحكيم المؤثر الذي سلكه عليه الصلاة والسلام لاسترضائهم وإقناعهم بحكمة ما فعل، فقد ذكر فضلهم على دعوة الإسلام، ونصرتهم لرسوله، ومبادرتهم إلى التصديق به حيث كذبه قومه وطاردوه، بعد أن ذكَّرهم بفضل الله عليهم في إنقاذهم من الضلالة والشتات والعداوة، ليسهل عليهم كل ما فاتهم من مال الدنيا بجانب ما ربحوه من السعادة والهداية، وبذلك أكد لهم أمرين: أنه لم ينحز إلى قومه وينسى هؤلاء الأنصار كما زعم بعضهم، وأنه كان حين حرمهم الغنائم، إنما كان يعتمد على قوة دينهم، وعظيم إيمانهم، وحبهم لله ولرسوله، ولعمري ليس بعد هذا الأسلوب أسلوب أبلغ في استرضاء ذوي الفضل والسبق في الدعوة ممن آمنوا بها مخلصين صادقين، لا يرجون جزاءً ولا شكوراً. فصلى الله وسلم عليه ما أصدق قول الله فيه: {وإنك لعلى خلق عظيم} [ن: 5].
رابعاً:... إن في موقف الأنصار بعد أن سمعوا كلامه، أروع الأمثلة في صدق الإيمان، ورقة القلوب، وتذكر فضل الله في الهداية والتقوى، فقد ذكروا أن الفضل لله ولرسوله فيما قاموا به من النصرة والتأييد والجهاد، وأنهم لولا الله لما اهتدوا، ولولا رسوله لما استضاءت قلوبهم وبصائرهم، ولولا الإسلام لما جمع الله شملهم بعد الشتات، وصان دماءهم بعد الهدر، وأنقذهم من سيطرة اليهود إلى عز الإسلام وخلاصهم من جيرانهم المستغلين، ثم أعلنوا إيثارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل ما تفيض به الدنيا من مال ومتاع، ولما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحمة لهم، ولأولادهم ولأولاد أولادهم، سالت مدامعهم فرحاً بعناية رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ودعوته المستجابة لهم، فهل بعد هذا دليل على صدق الإيمان، وهل هناك حب أسمى وأروع من هذا الحب؟ رضي الله عنهم وأرضاهم، وخلَّد ذكراهم في العالمين، وألحقنا بهم في جنات النعيم، مع رسوله الحبيب العظيم، والذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والمقربين.
وأخيراً فان هذا الموقف وما جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنصار، مما يجب أن يتذكره كل داعية، وأن يحفظه كل طالب علم، فانه مما يزيد في الإيمان، ويهيج لواعج الحب والشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين.